علوم وتكنولوجيامقالات و مجلاّت

مقال – غرف بجدران سينمائية

“كاميرا أوبسكورا” للمصور الفوتوغرافي أبيلاردو موريل تحول الغرف المظلمة إلى مناظر طبيعية تأسر الألباب.

 عدسة: أبيلاردو موريل

مشهد مقلوب لسنترال بارك في مدينة نيويورك
مشهد مقلوب لسنترال بارك في مدينة نيويورك في الخريف ينتشر عبر الجدران والسقف في صورة التُقطت بتقنية كاميرا الغرفة المظلمة. قم بإظلام غرفة، دع الضوء يتسرب إليها من خلال فتحة صغيرة، وقل أهلا بالعالم الخارجي إلى داخل الغرفة.
شيء غريب ورائع عندما يجد الضوء طريقة إلى فضاء مظلم من خلال فتحة متناهية الصغر. كان أرسطو أول من وصف هذه الظاهرة في القرن الرابع قبل الميلاد، ثم رسم ليوناردو دافينشي في إيطاليا في القرن الرابع قبل الميلاد، ثم رسم ليوناردو دافينشي في إيطاليا إبان عصر النهضة الطريقة التي تتم بها؛ وأما في منتجع كوني أيلند بالقرب من مدينة نيويورك، وغيره من المنتجعات الساحلية في القرن الـ 19، فقد اصطف السياح لروية نتائجها الساحرة. أما الآن فسننتقل إلى القرن العشرين لنعرّج على إحدى القاعات الدراسية في بوسطن خلال عام 1988، حيث تملّك أبيلاردو موريل، المولود في كوبا، فضول بالعودة إلى سنوات خوال وهو يُلفي درساً تمهيدياً حول التصوير الفوتوغرافي في إحدى كليات الفنون. ففي يوم مشمس، غطى موريل نوافذ القاعة الدراسية بغطاء من البلاستيك الأسود، ليحيل فضاءه مظلماً كالكهف، بعد ذلك أحدث ثقباً صغيراً بحجم الفلس في الغطاء، ثم طلب من طلبته المشاهدة. وعلى الفور تقريبا أصبح الجدار الخلفي ينبض بالمشاهد الحية مثل شاشة السينما؛ تخيم على سطحه صورة مشوشة لسيارات وأناس يتحركون على طول شارع هنتنغتون في الخارج. وبنظرة ثانية إلى المشهد، تبن أن الصورة مقلوبة رأساً على عقب؛ حيث انعكست السماء على الأرض، والأرض على السقف، وبدا وكأن المشهد ألغى قوانين الجاذبية.
صورة طيفية مقلوبة لمصباح كهربائي
صورة طيفية مقلوبة لمصباح كهربائي تظهر داخل صندوق تم تحويله إلى كاميرا دات ثقب. في إحدى صوره الفوتوغرافية النموذجية، يوضح موريل كيفية تشكل الصور باستخدام تقنية الغرفة المظلمة "المصباح الكهربائي" 1991

وهكذا حول موريل فصله الدراسي إلى كاميرا الغرفة المظلمة، أو كاميرا أوبسكورا (Camera Obsecura)، وهو الاسم اللاتيني الذي يطلق على مايُعتقد أنه أول جهاز تصوير عرفته الإنسانية وأول سلف للكاميرا الفوتوغرافية. ولعل الأمر الأكثر تعقيدا بشأن هذا الجهاز هو تفسير المبدأ البصري من ورائه. إذ تستقبل كاميرا الغرفة المظلمة الصور تماماً مثل العين البشرية، من خلال فتحة صغيرة وبشكل معكوس ومقلوب. ويدخل الضوء الخارجي في الثقب من إحدى الزوايا، وتأخذ الأشعة المنعكسة من قمم الأجسام، مثل الأشجار، اتجاها تنازليا، أما تلك المنعكسة من مستويات منخفضة، كالزهور مثلاً، فتسير في منحى تصاعدي. وهكذا فإن الأشعة التي تعبر داخل الفضاء المظلم تعمل على تشكيل صورة مقلوبة. يبدو الأمر وكأنه معجزة، أو حيلة من الحيل البصرية، لكنه لايفوق في تعقيده درساً في مادة الفيزياء للمرحلة الثانوية. فالدماغ يعمل تلقائياً على تصويب صورة العين؛ أما في الكاميرا العادية فأن المرآة هي من يتولى قلب الصورة.

مشهد على شكل بطاقة بريدية لجسر بروكلين
مشهد على شكل بطاقة بريدية لجسر بروكلين يحظى بمُسحة خشنة بعد أن عكس موريل الصورة على طبقة قطران تغطي سطح أحد المنازل. وفي تجربة زواج فيها موريل بين المزاج والملمس، حول خيمة بلاأرضية إلى كاميرا الغرفة المظلمة، حيث عمد الضوء النافذ من فتحة صغيرة إلى عكس صورة على الأرض، مشكلاً مايسميه موريل "مظهر من الطراز القديم". صورة على الأرض باستخدام خيمة-كاميرا: مشهد من السطح لجسر بروكلين 2010.

وقد أصبح الطراز المحمول من كاميرا الغرفة المظلمة – تحولت حينها إلى علبة وتم تزويد الثقب بعدسة – شائعاً لأول مرة خلال القرن الـ 17 حيث تم تكييفها من قبل رسامين مثل يوهانس فيرمير وكاناليتو كأداة مساعدة في الرسم. كما استخدمها العلماء في مراقبة كسوف الشمس، تماماً كما يفعل الأطفال اليوم بالكاميرات ذات الثقب المصنوعة من صناديق الأحذية. ولالتقاط صورة انعكاسية، بدأ المبتكرون في مطلع القرن الـ19 بإدخال أوراق أو لوحات معدنية معالجة كيميائيا في الجزء الخلفي من كاميرا الغرفة المظلمة التي تشبه الصندوق؛ وبهذا وُلد فن التصوير الفوتوغرافي.

مشهد مفعم بالحياة كما لو كان حلماً، في صورة فائقة الدقة لجسر بروكلين ومانهاتن السفلى، يرتسم فوق ملاءة سرير غير مرتب. وللحصول على هذه الصورة السريالية، قام موريل فعلياً بوضع كاميرته الفوتوغرافية داخل غرفة بمثابة كاميرا (كاميرا الغرفة المظلمة)، ثم أبقى على المصراع مفتوحاً لمدة خمس ساعات ليتم التعريض لضوئي للصورة الواردة على الفيلم. وقد استخدم موشوراً من أجل قلب الصورة إلى وضعها الصحيح. مشهد جسر بروكلين في غرفة النوم 2009

وبالنسبة لموريل، أستاذ التصوير الفوتوغرافي، فإن ذلك اليوم في الفصل كان وحياً. يقول موريل: “عندما رأيت كيف ذهل هؤلاء الطلبة العلميون النجباء بسحر وإعجاز الصورة على الجدار، أدركت حينها أنني إزاء سلطان عظيم”. وكان أول مشروع يأخذه موريل على عاتقه في هذا الشأن، والذي صُمم كأداة مساعدة في التدريس، هو تصوير العملية نفسها. وكانت النتيجة صورة “المصباح الكهربائي” التي تعود إلى عام 1991. وباستخدام مواد منزلية بسيطة، تمكن موريل من إبراز الطريقة التي تستخدمها الكاميرا ذات الثقب في تحويل الأشكال، وتوضيح الكيفية التي تتشكل بها الصورة الفوتوغرافية، وذلك بلمسة هولندية لاتخلو من أناقة. بعد ذلك وضع موريل نفسه أمام تحدّ آخر يتمثل في تصوير الصورة، الشبيهة بالطيف، التي تنشأ داخل غرفة تم تحويلها إلى كاميرا الغرفة المظلمة. وعلى حد علمه آنئذ، فإنه مامن أحد قام بذلك من قبل. وقد تطلب الأمر شهوراً من أجل تصميم هذه التقنية، ومعرفة الحجم الأنسب للثقب ليسمح بدخول الإضاءة والحدة بالدرجة المناسبة، وتحديد التوقيت الصحيح للتعريض الضوئي، لأجل إبراز المزيد من التفاصيل في الفيلم. ثم كان عليه أن يختار الغرفة، ومعها المشهد الخارجي المناسب.

الواجهة البيزنطية لكاتدرائية القديس مارك
خدعة بصرية رائعة: الواجهة البيزنطية لكاتدرائية القديس مارك تتموج في سكون ودعة من خلال أحد المكاتب على الجانب الآخر من الكنيسة في مدينة البندقية بإيطاليا. ويمثل هذا المشهد التفاتة من موريل إلى فنان القرن الـ 18، كاناليتو، الذي رسم منظراً مماثلاً بالإستعانة بتقنية كاميرا الغرفة المظلمة. وفي الغرفة ذاتها، وفقاً لحدس موريل، كان كاناليتو يقوم بعرض صور ومن ثم يخطها على الورق في وقت لاحق. صورة مستقيمة لبيازيتا سان ماركو وهي تقابل الجهة الجنوبية الشرقية داخل مكتب. البندقية، إيطاليا 2006

وحلّت لحظة الفتح المبين بالنسبة لموريل وهو في بيته في كوينسي بضاحية مدينة بوسطن. فقد وضع كاميرته ذات المشاهد الكبيرة الحجم على حامل ثلاثي القوائم داخل غرفة نوم ابنه، ثم أتاح دخول ثُقيّب من الضوء فحسب إلى الداخل، وقام بفتح المصراع من أجل التعريض الضوئي. غادر موريل الغرفة وراح ينتظر لمدة دامت ثماني ساعات. وكانت النتيجة فاتنة، فقد أظهرت الصورة النهائية أشجاراً ومنازل مقلوبة من مختلف أنحاء الشارع وهي تحوم فوق ألعاب الصبي وكأنه مشهد مستوحى من الخرافات. يقول موريل “كنت في غمرة الإثارة؛ فقد شعرت وكأنني أعيش لحظة اختراع التصوير الفوتوغرافي”. ومنذ لحظة اليوريكا تلك، صار موريل ينتج بغرفته المظلمة إحدى أروع الأعمال الفوتوغرافية وأكثرها أصالة في التصوير المعاصر. وتُراوح أعماله بين مناظر مدينة نيويورك البانورامية بلونها الأصفر النحاسي والمناظر الإيطالية الدافئة. وقبل بضع سنوات راح هذا الفنان يستخدم الألوان، مستفيداً من كثافتها العالية، ثم بدأ الحصول على صور غير مقلوبة باستخدام موشور. وباستبدال فيلم بجهاز استشعار رقمي، وهو أكثر حساسية للضوء، تمكن من تقليص مدة التعريض الضوئي من ساعات إلى دقائق فحسب، ماأتاح له التقاط الغيوم والظلال وغيرها من المناظر الجوية العابرة. وأشد مايبعث الحماس في موريل هو استخدامه خيمة بلا ارضية، وهي غرفة مظلمة محمولة يأخدها معه إلى أسطح المنازل أو الحدائق العامة أو شوراع المدينة من أجل عكس الصور مباشرة على الأرض، مانحا أحدث صوره ألقاً وسمواً بقوام خشن. يقول موريل “أرد أن يرى الناس العالم بعيون جديدة”. وبردمها للهوة بين المناظر الطبيعة ومناظر الأحلام، فقد جعلت صوره أعيننا تستفيق على نظرة جديدة للعالم بالفعل. – توم أونيل

غرفة جلوس بمدينة البندقية
ألوان وأشكال ومناظر تنبض سحراً وجنوناً في مشهد يسلب الألباب، ومن إبداع موريل في غرفة جلوس بمدينة البندقية. "أريد أن يتساءل الناس؛ أين يبدأ مشهد وأين ينتهي أخر؟"، يقول موريل، الذي قام بعرض مشهد غراند كانال على جدار به رسم يتخد موضوعه من الغابة. ويضفي ظل الثريا على الصورة المزيد من الفوضى الخلابة. مشهد فولتا ديل كانال في غرفة بلازو برسم موضوعه الغابة . البندقية، إيطاليا 2008

الأعمال الفنية لأبيلاردو موريل، وهو أستاذ سابق في كلية ماسوتشوستس للفنون والتصميم، تزين أروقة المتاحف في مختلف أنحاء العالم. توم أونيل من كتاب ناشيونال جيوغرافيك.

المصدر: مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية – عدد مايو/ أيار 2011 (بواسطة: أدهم)

تابعوا علوم العرب على
زر الذهاب إلى الأعلى