ثقافاتمقالات و مجلاّت

في جبران ونبيه

في جبران ونبيه

بسم الله الرحمن الرحيم

أذكر أني قرأت وأنا يافع الأجنحة المتكسرة أو شيئا منها ولكني لا أذكر عنها اليوم أي شيء, فقد كانت مجرد كلمات مرت في رأس فتى ولم تترك أثرا مهما. أما النبي فهذا أول عمل أقرأه على وعي لجبران خليل جبران. لقد قرأت الترجمة العربية للكتاب بقلم الدكتور ثورت عكاشة الذي ضمن أيضا النسخة الانكليزية مع العربية بالإضافة لتحليل عن تاريخ وشخصية جبران في مقدمة كتابه.

جبران خليل جبران
جبران خليل جبران

خلال قرائتي عن حياة جبران لاحظت أمرين

الأول : هو وجود سيدة أمريكية تدعي ماري هاسكل التي عرفت بروحها كيف تنمي نفسية جبران ووقفت معه ودعمته ماديا وروحيا وفكريا, إن عطائها هذا وحبها الحقيقي ربما وروحها السامية أدركا كيف يكون التعامل مع شخص كجبران. فعلا وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة الروح. على أن جبران لم يحبها كحبها له , فهو كان يحبها كمصدر للعطاء الروحي وليس كأنثى.

ثانيا: يبدو لي (وهو ما تراءى لي من خلال ما قرأته عنه ومن خلال ما كتب في كتاب النبي) أن جبران امتلك نفسا تواقة وثابة إلى كل شيء تريد ان تجرب وتعرف وتغترف من كل شئ غرفة, نفس تعشق التميز والتفرد كشأن المفكرين جميعا, نفس تحب الحياة ومتعها, وربما كانت تجربته مع الغربة والحب قد شحذت نفسه ووجدانه وولدت لديه عمق إحساس من نوع خاص. ان من يملكون مثل تلك النفس عادة ما يعشقون التميز وحب التميز هذا هو الذي يضعهم في تلك التجارب والآلام ويشعرهم ربما بغربة الروح وهذه الآلام والتجارب بالنتيحة تؤدي لانتاج فكري متقد. لكن ربما, وأقول ربما كان الدافع لفكرهم هو تعزيز هذا التميز وإرضاء الشعور بالتفرد فقط, مع بقاء ان الفكر نفسه متميزا.

إن فكر جبران والذي شحذته الغربة والحب بالدرجة الاولى اتسم بتعظيم الحب وبالإيمان بوحدة الوجود وبعظمة الانسان الذي يكمن الله في نفس البشر جميعا, كما احب جبران الطبيعة والجمال وهذا طبيعي كونه رسام من جهة وكونه يؤمن بوحدة الوجود من جهة اخرى. وبما أخذ فكرة وحدة الوجود عن الديانات الشرقية وعن التصوف الاسلامي. نلتمس من فكر جبران أنه يؤمن بشكل ما بالله وان ربما بشكل مختلف عن مفهوم الاله للديانات التقليدية فهو يؤمن بأن الله هو الذات العظيمة للبشر جميعا ويسميها هو بالانكليزية GOD-self وأن كل شيء قائم على الحب, وهذا حال بعض من يؤمن بوحدة الوجود بأنهم يرون الله والطبيعة والروح وذات الانسان مندمجة في وحدة واحدة اي ان الذات الالهية ومخلوقاتها هي وحدة واحدة,

وليس كل من يقول بوحدة الوجود لديه هذا الراي طبعا فالبعض يرى وحدة الوجود بطريقة مختلفة.

أستطيع ان أقول أنني أنظر لجبران كشاعر اكثر من كونه فيلسوف, فهو لم يحاول أن يبرر أو يحلل أفكاره وإنما نقل وجدانه بأسلوب تصويري جميل. إن ما جاء به من أفكار في كتاب النبي ربما لم تكن جديدة في كثير منها فقد قالها قبله المتصوفة المسلمين وغيرهم الا أن ما مميز جبران بالنسبة لي هو الطريقة التي صاغ بها أفكاره والأسلوب النابض بالحب الذي كتب به عباراته, ولقد كانت ترجمة الدكتور ثروت عكاشة للكتاب موفقة جدا حتى لتشعر أنك تقرأ كتابا كتب بالعربية أصلا مع الحفاظ على اسلوب جبران.

هذا في جبران أما في نبيه

النبي
النبي

النبي هي قصة انسان حكيم يسميه جبران المصطفى يعيش فترة في اورفاليس وقبل ان يرحل منها يحدث قومها بحكمته عن الحب والجمال و الصديق وامور اخرى في جوانب الحياة, ربما أراد جبران بالنبي ان ينطق عن لسانه ما يعتقده من مبادئ في فلسفته للحياة.

عمل رائع حقيقة, يستحق ما بذل عليه جبران من وقت وجهد, كتاب جميل يفيض حبا وحكمة. هذا الكتاب حول فيه جبران وجدانه إلى ما هو أقرب للشعر منه للفكر, يلمس الروح بعمق. أعجبني جدا الأسلوب اللغوي الذي حاك فيه جبران خيوط وجدانه, لقد طحن جبران الحروف وعجنها وخبرزها وانتج منها أحاسيس جديدة في شكل كلمات هادئة تنساب في روحك قبل أذنيك وتحمل بين طياتها حكمة كبيرة. لقد كنت أقرا النبي واستمع اليه ككتاب مسموع في نفس الوقت مما عزز من جمالية التذوق.

وأريد ان أورد هنا بعض المقاطع التي أعجبتني جدا من الكتاب مع بعض أفكاري حولها. ولانني أؤمن ان نهاية كل بحث عن الحقيقة في الدنيا هي الله, لذلك أورد هنا كيف كان بعض ما توصل اليه جبران من افكار يرتبط بالله من وجه نظري.

* إن أطفالكم ما هم بأطفالكم فلقد وَلَدهم شوقُ الحياة إلى ذاتها بِكُمْ يَخرجون إلى الحياة، ولكن ليس مِنكُم وإنْ عاشوا في كنَفِكُم فما هُم مِلْكَكُم قد تمنَحونَهُم حُبَّكُم ولكن دونَ أفكارِكم فلَهُمْ أفكارُهم ولقد تؤون أجسادَهم لا أرواحهم

هذا يتفق مع حقيقة مهمة في الوجود, فمع انك انت سبب مجيئ أطفالك للدنيا كجسد إلا أن أرواحهم ليست منك ونفوسهم لست أنت من تنشؤها فيما يتعلق بالخيارات الاساسية كاختيار

طريق الخير من طريق الشر .وهذه الأرواح مهما كانت البيئة التي جاءت فيها قادرة على ان تاخذ طريقها الخاص في الحياة وتكون مسؤولة عنه, وهنا نعرف لماذا يجب ان نتوقف عن لوم أهلنا فيما يحدث لنا فنحن فقط الذي نحدد مصيرنا. وإذا كان الانسان سيحاسب فردا فلا بد ان يكون له القدرة على اتخاذ سبيله في الحياة والا لما صح الحساب.

* إنك لتعطي القليل حين تعطي مما تملك، فإذا أعطيت من ذاتك أعطيت حقّاً.

يذكرني هذا بقول الله عزوجل لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ

* ليتكم تستطيعون أن تحيوا على عبير الأرض كما يحيا النبات على الضوء …فإذا لم يكُّ بدٌّ من أن تقتلوا لتأكلوا …وأن تسلبوا لبن الأم من رضيعها لتطفئوا ظمأكم …فأجعلوا ما تعملون إذاً طقسا من طقوس العبادة

هل يعطيكم هذا فكرة عن لماذا يذكر اسم الله على الذبيحة قبل ذبحها في الاسلام؟

* لعمري ان الحياة ظلام الا اذا صاحبها الحافز… وكل حافز ضرير الا اذا اقترن بالمعرفه… وكل معرفه هباء الا اذا رافقها العمل… وكل عمل خواء الا اذا امتزج بالحب… فاذا امتزج عملك بالحب فقد وصلت نفسك بنفسك ..وبالناس ..وبالله.

وما أكثر تحفيزا في الحياة إلا أن تدرك أصل الوجود الذي هو الله وما أروع أن تفهمه بالمعرفة وإذا عرفته عبدته وعبادة الله في أصلها هي طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية, فهل كلام جبران لا ينسجم مع هذا؟

* ماذا أقول في هؤلاء سوى أنهم واقفون كغيرهم في وضح النهار, لكنهم ولوا ظهورهم للشمس؟ لا يرون إلا ظلالهم, و ما ظلالهم إلا شرائعهم.

وهيهات أن يروا في الشمس إلا مصدرا للظلال

فإذا كان الله هو نور السماوات والأرض, ورأينا بعض الناس ممن يعتقدون أن الله هو فقط مصدر لتشريع وقوانين يتقيدون بها بدل أن يروه مصدر سعادتهم وأن القرب منه حل لمشاكلهم وسعادة لنفوسهم فهؤلاء الذين لا يرون في الشمس إلا أنها مصدر للظلال.

* لا يستطيع انسان أن يكشف لك عن شئ إلا إذا كان غافياً في فجر معرفتك

فما بالك بالمعرفة الأولى, من اعطاها للبشر؟ ألم يقل الله عزوجل وعلم آدم الأسماء كلها

* وكما أن كل واحد منكم قائم بذاته في علم الله …كذلك يجب ان يكون كل منكم قائما بذاته في علمه بالله وفهمه أسرار الارض.

إن معرفة الله والاتصال به والاحساس به هو شيء في القلوب يختلف به البشر ولربما كان في قلب كل منا علم بالله مختلف عن الآخر وربما كان عدد الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق.

* أليس الدين هو كل عمل وكل تفكير

فالدين الذي ينطلق من فكرة تؤمن بها لا بد وأن ينعكس على حياتك , وكلما عظمت الفكرة كلما زاد تأثيرها عليك واتسعت دائرة التأثير. وما دين الله بغير ذلك فدين الله يشمل كل جوانب الحياة وهذا يفسر لماذا لدينا حكم وتفاصيل كثيرة في الدين لأنه تلك الفكرة العظيمة التي تنعكس على كل شئ فينا.

* إذا اردتم ان تعرفوا الله فلا تشغلوا انفسكم بحل الالغاز بل انظروا فيما حولكم ، تروه يداعب اطفالكم، و انظروا الى الفضاء تبصروه يسير بين السحاب ويبسط ذراعيه مع البرق ويتنزل مع المطر، سترون بسمته في الزهر و حين يعلو يخفق الشجر بخفق يديه.

وكيف نعرف الله إلا من خلال التأمل في آياته, إلا من خلال معرفة أسمائه, انه هو الرحيم الذي يداعب الأطفال وهو الرحيم منزل الأمطار وهو الجميل خالق الأزهار, هذا هو الله, من عرفه وجده في كل شيء لأنه يتجلى على كل شيء ولا يحل فيه.

هل قرأت هذا الكتاب ؟ شاركنا برأيك في التعليقات …

للكاتب ثائر ديب : طالب دكتوراه باليابان

تابعوا علوم العرب على
زر الذهاب إلى الأعلى