بسم الله الرحمن الرحيم
تناقض الثورة و النهضة
أجمعت الأمة على الثورة، وكان إسقاط النظام هدفا بالغ الوضوح. فهل هناك في النهضة ما يعادل ذلك الهدف وضوحا وتحديدا واجماعا؟
هل أنتجت الثورة الفرنسية نهضة أم أنتجت دمارا وثبورا؟
تقضي الثورة على الهياكل والمؤسسات القائمة ولا تعرف غالبا كيف تبني هياكل ومؤسسات بديلة وهذا ما حصل في الاتحاد السوفيتي . لقد انهارت بانهياره منظومات القيادة والسيطرة؛ والإنتاج والتوزيع؛ لقد كانت الإدارة مركزية باطشة ولكنها كانت فاعلة؛ وهكذا تلفت المحاصيل والخضروات في الحقول ولم تجد من ينقلها الى الجياع في المدن.
عاشت مصر مع توقيع المعاهدة البريطانية سنة 1936 أياما عصيبة وحاسمة. اجتمع شباب مصر المخلص لتحديد الاستراتيجيات الأفضل لمصر، فوجدوا تباينا واختلافا شديدين في تصورهم لما هو أفضل مما جعلهم يتوجهون لأحد مفكري وأساتذة مصر في ذلك الوقت وهو الأستاذ طه حسين رحمه الله. توجهوا إليه بالسؤال التالي:
نعلم أننا مخلصون لمصر ومحبين لها، ولكننا لا نستطيع الوصول إلى تصور مشترك للأفضل، أي أننا نجد بيننا تناقضا في التصور.
ومما سبق أود التذكير بما يلي:
- إحساس الشباب المصري بدوره في مستقبل بلده وتحركه لتحديد أهدافه والقيام بدوره
- التوجه إلى المفكرين وأصحاب الخبرة والحكمة، وتقدير كامل لغير الشباب ودورهم
وما أشبه اليوم بالبارحة!
كان جواب الأستاذ طه حسين باختصار أن اختلاف المدارس ونظم التعليم المدرسية في مصر من يونانية وإيطالية وفرنسية وإنجليزية وغيرها عكس على التكوين الفكري للشباب، مما جعلهم مرآة لثقافات المدارس التي درسوا فيها، ونقلوا منهجيات تفكير مختلفة انعكست كخلافات بينهم. وقد ألف عندها سنة 1938 كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” ليوضح ويوثق ذلك؛ مع التنويه الى اختلاف كاتب هذا المقال مع كثير مما احتواه الكتاب المذكور.
والآن، كيف نمنع اختلاف شباب الأمة، سواء في مصر الكنانة – قلب الأمة وعزها، أو في تونس الياسمين – باب الخير ونبراس الأمل، أو في كل البلاد التي تسير في طريق النهضة؟
هناك إجابة لدى كبرى الشركات والمؤسسات الدولية والعالمية: ألا يدير هذه المؤسسات مدراء من جنسيات وأديان وعقائد ولغات وثقافات أكثر تناقضا من شباب مصر سابقا وحاليا؟ وكذلك موظفيها؟ كيف تحقق هذه المؤسسات هذا النجاح الهائل وهذا التوافق والتناغم؟ هل تعتمد الشركات العالمية، أو الدول التي نهضت وتفوقت بسرعة منهجيات وعلوم محددة؟ أليس مثال كوريا الجنوبية وسنغافورة واضح وجلي؟ ألا نرى أن كوريا الجنوبية انطلقت منذ حوالي خمسين عاما، من التخلف إلى التفوق؟ ألا نرى أن هذا التفوق شامل في كل مناحي الحياة: تعليما وصناعة وزراعة ورياضة وفنونا؟
لقد نجحت دول كثيرة بثقافات متعددة مثل أستراليا وكندا، وما زالت تتفوق مفتخرة بتعدد ثقافاتها، فكيف كان الحل؟
يتفوق يوم الدول المتقدمة على الدول المتخلفة بحثا وتطويرا وإنتاجا، وتزداد الفجوة بين المتقدم والمتخلف، فكيف للمتخلف أن يسابق المتقدم بتقليده فحسب او باستئجار و شراء أدواته وأساليبه، وهل يسبق المقلد الأصيل، وقد قال العرب سابقا “وهل تبكي المستأجرة كالثكلى”؟
وكأن معادلة النجاح واحدة، فعندما تتقن دولة ما هذه المعادلة، نراها تنطلق في كل مناحي الحياة، تسابق الزمن وتطوي المسافات لتعوض تخلفا بدا أبديا.
حتى تلد ثورتنا نهضة وتقدما، لا دمارا وفشلا، تعالوا نستلهم معا علوم وتجارب من سبق، ونضع معادلة لنجاحنا، تشمل خصوصيات ثقافتنا وتبني لنا شرعة ومنهاجا، إنسانا وأدوات، أصيلة لسباقنا، تخرج أفضل ما عندنا، وتنير طريق عودتنا، لنكون نبراسا للناس وبين قادة العالم، نبني ونحقق خير الإنسان يدا بيد مع كل الأمم، وكما قال القرآن الكريم في سورة الحجرات بعد بسم الله الرحمن الرحيم
“يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم” – صدق الله العظيم.
تصدرت (يا أيها الذين امنوا ) الآيات السابقة لهذه الآية من نفس السورة، أي أن الخطاب في الآية أعلاه موجه للناس جميعا، يعلمهم فيها ان الناس أخوة ومن نفس الأبوين، وهم مكلفون بالتعارف (لا التحارب)، ويحتمل معنى التعارف أيضا التشارك في المعرفة ، وما أجملها عولمة ، إنسانية الأبعاد.
سأحاول في المقالات اللاحقة أن أطرح بين أيديكم؛ للمشاركة والنقاش؛ موضوع بناء النهضة، منهجيتها وإنسانها، أدواتها وثقافتها، راجيا كل من لديه فكرة أو مساهمة ألا يبخل علينا جميعا بها، وكم من مستمع او قارئ أعلم من متكلم.
انتهى زمن الصمت أيها الأحبة، ومن لا يساهم الآن فمتى؟
لقد حقق شباب هذه الأمة النجاح الأصعب واضعين أرواحهم على راحتهم، ضاربين للعالم أمثلة رائعة في الانتماء والوفاء والأخلاق عز نظيره في التاريخ.
وليكن عنوان المقال القادم ”كيف نبدأ نهضتنا؟”
نسأل الله التوفيق والرشاد.