مقال – كيف تَصْنَع عالِمًا ؟
نُشر هذا المقال في Nature الطبعة العربية / سبتمبر 2015 سبتمبر 2015، رابط تحميل المقال PDF في أسفل الصفحة.
1. توسعوا عبر التخصصات :
غالبًا ما تقود برامج الدكتوراة إلى مزيد من التحديد والتخصص، مما يأتي لنا بخريجين لم يحتكّوا بشكل كاف بالجوانب الأوسع نطاقًا من موضوعات تخصصاتهم، و غيرها من الموضوعات ذات الصلة. و إذا نظرنا إلى ما وراء الاهتمامات المباشرة المطروحة في مشروع رسالة علمية، فإن ذلك من شأنه أن يقودنا إلى اكتشاف محاولات إبداعية حقيقية. و من بين الوسائل المستخدَمة لتوسيع نطاق التفكير، أن نضمن للطلاب سبل التواصل مع مجموعة من المحاضرين المُلهَمين، الذين يكون بوسعهم تغطية نطاق واسع من الموضوعات العلمية، على أن يبتعد بعض هؤلاء المحاضرين عن التركيز على المسائل الخاصة بالدكتوراة. و نحن في معهد فرانسيس كريك سوف نغطي نطاقًا واسعًا من مجال الطب الحيوي، و لدينا محاضرون ملهَمون حقًّا لهذه المهمة. و برغم ذلك.. لن نغفل الجوانب العلمية الأخرى، مثل فيزياء الطاقة العالية، و المادة المظلمة، و كذلك الجوانب الخاصة بعلم الأحياء، مثل التطور، وعلوم البيئة، التي تُعَدّ غير وثيقة الصلة بمجال الطب الحيوي.
و هناك اقتراح آخر، يتعلق بفكرة أُطلق عليها «فصول الموهوبين»، حيث تحاكي نمط عازفي الآلات الموسيقية. فإذا انتقلنا بتلك الفصول المتخصصة إلى مجال العلوم، يمكن من خلالها أن يلتقي عدد من طلاب الدراسات العليا مع خبير تنفيذي متميز، يتحدث إليهم عن ممارسة العلوم في الحياة العملية. و لا أعني بذلك مناقشة تفاصيل التجارب العلمية، و لكن مناقشة المسائل الأوسع نطاقًا من نوعية: كيف تقوم بإجراء تجربة ناجحة؟ كيف تؤدي العمل بشكل دقيق؟ ما طبيعة المعرفة؟ و غيرها من المسائل.
أما الاقتراح الأخير، فيتمثل في توسيع نطاق التوقعات المأمولة. فعندما يصل الطلاب إلى حد إتمام ثلاثة أرباع مشوارهم الدراسي نحو الحصول على الدرجة العلمية، لا بد من أن يتم إرشادهم و توجيههم بشكل مكثف، و حثهم على مناقشة مستقبلهم المهني. فإذا أرادوا النظر في وظائف أخرى، فإننا في حاجة إلى تحديد مدة زمنية تقدَّر ببضعة أسابيع، يمكنهم خلالها خوض برامج تدريب داخلي قصيرة. و ينبغي علينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا، وأن نعترف بأن الطلاب و باحثي ما بعد الدكتوراة لدينا لن يعملوا جميعًا في وظيفة طويلة الأجل في البحوث الأساسية، لكن التعليم الذي يحصلون عليه تظل له قيمته وجدواه، لأنهم من خلاله يكتسبون مجموعات من المهارات التي يمكنهم توظيفها في مجالات أخرى، أي في أعمال ومشروعات سوف يثريها وجود هؤلاء العلماء. إننا نريد أن نرسخ لثقافة تسود فيما بين المرشدين و الباحثين، ولا تَعتبِر الطلاب الذين يغادرون المجال الأكاديمي «فاشلين». فهؤلاء الأشخاص قد اختاروا بحكمة و عقلانية، و لا بد من احترامهم وتقديرهم، لأنهم يوظفون العلوم في مجالات أخرى، سوف تستفيد من وجود هؤلاء العلماء.
2. وسِّعوا آفاق الخبرة عبر المؤسسات التعليميّة :
تحتاج اليابان إلى المزيد من الخبرات في المجالات الناشئة، مثل علوم المخ، و هندسة الخلايا، و علوم البيانات، و الأمن المعلوماتي، و لكن الجامعات ما زالت محصورة في التخصصات العلمية التقليدية. و لذلك.. نطلب من الجامعات حاليًّا وضع برامج تعبِّر عن تلك المجالات المتنامية، حيث تحتاج المؤسسات التعليمية إلى التعاون، لتكوين شبكة من تلك البرامج، لتواجه تراجع أعداد أبناء الشعب الياباني ممن هم في سن الجامعة، و لتواجه القيود الصارمة المفروضة على الموارد المخصصة لتلك المؤسسات.
من المشكلات الأخرى الملحة .. كيفية تشجيع شباب العلماء و المهندسين على الخروج، و العمل مع أفضل المتخصصين في مجالاتهم، وعلى تكوين روابط وعلاقات على المستوى العالمي، حيث أصبح ذلك حاليًّا جانبًا أساسيًّا من جوانب العلوم. و في ظل التغيرات التي تعرَّض لها النظام الجامعي في اليابان على مدار العقد الماضي، فإن وظائف جديدة كثيرة يدعمها التمويل الخارجي الذي يتميز بطبيعة تنافسية. و هذا يعني أن العلماء الشباب يتم توظيفهم وفقًا لعقود محددة المدة، مما يخلق ظروف عمل لا تمنحهم الشعور بالأمان. فكل 3 سنوات، أو 5 سنوات، يضطر هؤلاء العلماء إلى البحث عن وظيفة جديدة، بعقد تتراوح مدته بين 3، و5 سنوات، وهكذا. و إذا سألتهم لماذا لا يسافرون إلى الخارج؛ لاكتساب خبرات عالمية، أجابوك بأنهم لا يستطيعون المجازفة بتضييع فرصة الحصول على مشروع آخر في اليابان. و لحل تلك المعضلة، نعمل في الوقت الراهن على إقامة علاقات على المستوى العالمي داخل جامعاتنا، يكون من شأنها أن تتيح للباحثين الانتقال إلى دولة أخرى، ثم العودة إلى وطنهم من جديد.
كذلك يجب علينا إحداث تغيير و تنوع في المسار المهني و الوظيفي، حيث إنه في القطاع الخاص الياباني، نادرًا ما تقوم الشركات بتوظيف طلاب الدكتوراة، و باحثي ما بعد الدكتوراة، بعد إتمامهم لفترة التدريب. أما في الماضي، فكان من المعتاد توظيف الأشخاص بشكل مباشر، من خلال المؤسسة الجامعية التي يدرسون بها، و تشغيل العاملين من خلال برامج التدريب الخاصة بهم، أي تجاوز التعليم الجامعي، مقابل وظيفة دائمة مدى الحياة. و بوسع الجامعات المساعدة في تغيير ذلك النظام، حيث يمكنها توفير التدريب و الخبرة للعمل في الصناعة، و توجيه طلاب الدكتوراة و باحثي ما بعد الدكتوراة لديها. و للمساعدة في تحقيق ذلك.. نخطط حاليًّا لمشروع مستحدَث للتعيينات البينية عبر المجالات، يتضمن خبراء على مستوى أعضاء هيئة التدريس في الجامعات والشركات. و لا شك أن هذا سوف يمنح المتدربين مهارات قيمة، ويشجع الشركات على توظيف المزيد من حملة الدكتوراة و باحثي ما بعد الدكتوراة من الجامعات
3. عرَّفوا الهدف أولًا، ثم طالِبوا باتخاذ قرارات :
يفتقر مفهوم الدراسات العليا إلى تعريف واضح للهدف منه. فإذا اعتبرنا طلاب الدراسات العليا بمثابة متدربين، فيجدر بوكالات التمويل، و بجميع مَن لهم صلة بالأمر التأكد من أن التدريب الذي يحصل عليه هؤلاء الطلاب ذو قيمة لكل من المجتمع، والطلاب. فكلية الدراسات العليا حاليًّا تُعَدّ بمثابة تجربة بحثية مشجعة من الناحية الفكرية، ولكنها لا تمثل تعبيرًا واضحًا عن أي مسار مهني، أو وظيفي. ومن بين الأمور التي تثير تساؤلاتي: هل التسلسل الذي يبدأ بطالب الدراسات العليا، وينتهي بباحث ما بعد الدكتوراة، ضروري بالفعل للتدريب، أم أنه مجرد وسيلة لتكديس الشهادات، وممارسة العلوم بتكلفة قليلة؟ وعلينا أن نعرف الفوائد التي يجنيها الطلاب من السنوات الدراسية الرابعة، والخامسة، والسادسة، مقابل ما يحصلون عليه في السنوات الثلاث الأولى. فهناك ضرورة لتوفير وسيلة للموازنة بين احتياجات طلاب الدراسات العليا، بوصفهم طلابًا، وليس بوصفهم مجرد قوة عمل بحثية فحسب.
لكي يقرر الطلاب ما إذا كانوا سيستفيدون من كلية الدراسات العليا، أم لا، فإنهم سيكونون بحاجة إلى معرفة إلى أين يمكن أن تقودهم تلك الكلية، كما سيحتاجون إلى التوقف عن التفكير في وظائف أعضاء هيئة التدريس، بوصفها النهاية المحتمَلة لذلك المسار الوظيفي. فالوظائف التي يلتحق بها الأشخاص متنوعة، ويرى كثيرون أنهم يستخدمون في تلك الوظائف التدريبَ البحثي الذي حصلوا عليه، ولكن هناك آخرون لا يشعرون بالأمر ذاته. وسوف تساعد التكليفات الخاصة بوضع خطط للتطوير الفردي لطلاب الدراسات العليا وتتبُّع أنشطتهم المهنية في الكشف عن الكيفية التي يبدو عليها سوق العمل في حقيقة الأمر.
لا بد من إتاحة مزيد من الفرص للأشخاص، لاتخاذ قرارات واعية بشأن مستقبلهم المهني. فعلى سبيل المثال.. أعتقد أنه يجب أن تكون درجات الماجستير أكثر شيوعًا وانتشارًا، حيث إن الأشخاص الذين يحصلون على درجة الماجستير بعد اجتياز امتحان مؤهِّل، يجب النظر إليهم بصفتهم يتخذون قرارًا عاقلًا بشأن مواصلة الطريق نحو الحصول على درجة الدكتوراة، و ألا نفكر في أنهم قد أخفقوا في الاستمرار بالشكل المُتوقَّع.
4. تتبّعوا حمَلة الدكتوراة، بعد حصولهم على درجاتهم العلمية :
ظَلَّ العلماء الشباب من أصحاب الطموح في برامج الدكتوراة على مدار عقود، غير قادرين على تكوين صورة وافية عن شكل فرص العمل المتاحة أمامهم، بل وحتى عن الظروف التي يتعرض لها الخريجون الجدد. وكان ذلك مَجْلَبةً للإحباط وتثبيط الهمم، بل وكان سببًا محتملًا لاضطرار هؤلاء العلماء للخروج نهائيًّا من المجال العلمي. لذا.. هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق برامج الدكتوراة، تتمثل في ضرورة بذل أقصى جهد؛ لتحسين تلك الأوضاع.
إن معظم كليات الدراسات العليا ـ على ما يبدو ـ لا تبذل قصارى جهدها لكي تبقى على اتصال بطلاب الدكتوراة، وباحثي ما بعد الدكتوراة السابقين لديها. ربما تعرف تلك الكليات الأماكن التي يذهب إليها خريجوها من حملة الدكتوراة، لإجراء بحوث ما بعد الدكتوراة، ولكنها لا تعلم ما يفعله هؤلاء بعد ذلك بفترة تتراوح بين 5، و10 سنوات. وربما يكون أعضاء هيئة التدريس على علم بما يفعله خريجو المعامل لديهم في الوقت الراهن، ولكن في المعتاد لا يتم تجميع تلك المعلومات بطريقة مركزية. وإذا قامت الجامعات بجمع تلك البيانات بشكل علمي منظم، تمامًا كما تفعل بشأن بيانات خريجيها من الطلاب، فإن تلك البيانات سوف تكون مفيدة لحملة الدكتوراة، وباحثي ما بعد الدكتوراة المنتظرين، الذين يفكرون حاليًّا في مشوارهم الوظيفي.
يجب على الجامعات أيضًا النظر في تقييد مدة بحوث ما بعد الدكتوراة، فقد تبنّت مؤسسات كثيرة حدودًا زمنية رسمية، بلغ معظمها في المعتاد 5 سنوات، لكن تلك الحدود يمكن أحيانًا الالتفاف عليها، من خلال تغيير المسمى الوظيفي، بدون تغيير حقيقي في المهام، أو التوقعات. ولا يمكن لتلك الحدود الزمنية ـ ولا للمسميات الوظيفية الجديدة ـ إصلاح المشكلة الأساسية، التي تتمثل في نقص خيارات الوظائف المتاحة، فسوق العمل لا يزال غير متاح بقوة أمام العلماء الحاصلين على الدكتوراة في معظم المجالات. وبطبيعة الحال، ربما يريد بعض هؤلاء الباحثين الاستمرار لعام سادس، على أمل أن يجدوا جديدًا، أو ربما يظلون لعام سابع، لعلهم يستطيعون نشر تلك الورقة البحثية في احدى الدوريات العلمية المرموقة ذات التصنيف العالي. وإذا ما أراد أحد باحثي ما بعد الدكتوراة البقاء والاستمرار، وإذا رحّب الباحث الرئيس بذلك، وإذا أتيحت الأموال للمنح البحثية، يتساءل البعض عن الداعي لأنْ يتم تعقيد الأمور بسبب حد زمني تم وضعه بشكل تعسفي. إن تلك الآلية لا تعمل على المدى الطويل، ومن ثم يحتاج المتدربون إلى فهْم أن فرصهم في العثور على وظيفة، من شأنها أن تتناقص، نتيجة لاختيارهم إضافة عام واحد، أو اثنين إلى المدة المخصصة لهم لإجراء بحوث ما بعد الدكتوراة. وقبل أن يصل طلاب الدكتوراة، وباحثو ما بعد الدكتوراة إلى تلك النقطة، يجب على الباحثين الرئيسين أن ينصحوهم بتوسيع نطاق مهاراتهم، بحيث تتجاوز نطاق المهارات التي يتم تدريسها في المعتاد في برامج الدكتوراة. وفي ضوء الصعوبات التي تشهدها أسواق العمل، سواء في الوقت الراهن، أم في المستقبل، فمن المحتمل أن يدرك طلاب الدكتوراة، وباحثو ما بعد الدكتوراة، الذين يتمتعون بالحكمة والعقل، أنهم بحاجة إلى اكتساب مهارات إدارية ومهنية غير علمية، إذا رغبوا في العثور على وظائف مغرية طويلة الأجل، ترتكز على مهاراتهم العلمية.
5. علِّموا الناس مبادئ الإدارة :
يقضي طلابي و باحثو ما بعد الدكتوراة ـ الذين يعملون تحت إشرافي ـ جميع أوقاتهم في حالة من التركيز على التجارب العلمية، و هو ما يمثل بالطبع الأولوية القصوى للعلماء الشباب الذين يبنون حياتهم المهنية، لكن ثمة أمر، لم نقم بمواجهته في المجتمع العلمي بطريقة مناسبة، ألا و هو كيف نجعل هؤلاء الطلاب و الباحثين يركزون على التفاعل بشكل مُنتِج و مثمر مع الأشخاص الآخرين. فتعلُّم كيفية إدارة فريق عمل، والتعاون مع الآخرين، سوف يصبح أكثر أهمية، خصوصًا عندما تصير العلوم أكثر تعاونًا.
إننا ماضون حاليًّا في تحقيق بعض التحسن فيما يتعلق بتعليم الطلاب كيفية كتابة طلبات المنح، لكن هذا يمثل جزءًا صغيرًا فحسب من إدارة المختبر. أما الجزء الأكبر والأكثر أهمية في إدارة المختبر، فيتمثل في قدرتك على الحصول على أفضل جودة للعمل من الفنيين والمتدربين، بل وحتى من الزملاء. وتشمل البرامج التقليدية في مرحلتي الدراسات العليا ودراسات ما بعد الدكتوراة قدرًا قليلًا من التدريب على إدارة الأفراد، أو تخلو منه تمامًا. لذا.. كان عليَّ تعلُّم ذلك النوع من التدريب، من خلال متابعة طريقة إدارة المرشدين الذين أشرفوا علي مختبراتهم. لم يكن هناك تدريب رسمي على الإدارة من أي نوع. وقد استغرق الأمر مِنِّي فترةً من الزمن، قبل أن أتعلم كيف أرشد الطلاب و أوجههم، بدون أن أهدم ثقتهم بأنفسهم، أو كيف أحفِّز الطلاب بأساليب مختلفة بناء على شخصياتهم.
لا يوجد خارج نطاق برامج ماجستير إدارة الأعمال سوى قدر محدود من التدريب على القيادة، وعلى كيفية تشكيل فريق العمل المناسب، وكيفية إدارة ذلك الفريق بطريقة فعالة. فأسلوب تعاون فرق العمل يمكن أن يؤثر على طريقتنا في ممارسة العلوم في الواقع. و بغض النظر عما إذا كانت الأمور تسير على ما يرام بالفعل، أو أنه قد اختلط الحابل بالنابل، فإنك بصفتك رئيس المختبر، لا بد أن تحافظ على رباطة جأشك و إيجابيتك، و أن تكون بمثابة قائد المشجعين. لذا.. فإن شعورك بالاكتئاب، وإظهارك لتلك المشاعر قلما يكون مفيدًا.
سوف يساعد تحسين التدريب على إدارة المختبرات، وسيعِين الأفراد رؤساء المختبرات على إرشاد الطلاب وتوجيههم إلى اختيار المشكلات البحثية الجيدة، وvإلى تجنب الانبهار المُبالَغ فيه بنموذج أو نظام معين، إلى جانب تعليمهم كيفية إجراء التجارب بدقة و صرامة. و يجب على الجامعات الاعتراف بأن التدريب على القيادة مهارة قيِّمة من مهارات المختبر، وعليها أيضًا أن تتعلم كيفية التعامل مع تلك المسألة.
6. مارِسوا فن طرح الأسئلة الثاقبة :
مِن بين المسائل التي لا تتم تغطيتها بشكل علمي منظم في معظم برامج الدراسات العليا.. كيفية تحديد الموضوعات البحثية الجيدة. ليست هناك وسيلة واحدة للقيام بذلك بالطبع، فمن ناحية.. يعتمد الأمر على ما يمكن اعتباره موضوعًا بحثيًّا جيدًا، وهنا تختلف الآراء بوضوح. فكل واحد منا تتغير إجابته وتتطور، كلما اكتسب مهارات وخبرات أخرى، ونجح في تكوين علاقات جديدة، وغيرها من الأمور، لكن بعض الأسئلة تظل ثابتة بلا تغيير، مثل: هل هذا الأمر جدير بأنْ أفعله؟ مَنْ سيهتم، إذا حققتُ، أو حققنا نحن، النجاح؟ هل يمكنني فعل ذلك، سواء بمفردي، أم بالتعاون مع زملائي؟ ما طبيعة المنافسة؟ هل هي مشكلة فردية منتهية، أم من المنتظر حدوث تطورات في المستقبل؟
ليس واضحًا ما إذا كان من الممكن تدريس مهارة اختيار الموضوعات الجيدة، ولكن من الواضح أنه يمكن تعلُّمها، حيث إن بعض الباحثين يصلون إلى الاختيار الصحيح بدرجة أكبر من غيرهم، وهي موهبة يمتلكونها منذ مولدهم في الغالب. وتتمثل الخطوة الأولى في قيام المشرفين وطلاب الدراسات العليا بمناقشة الاختيارات مناقشةً متكررة، وواضحة، ونقدية. وأعتقد أن هذا الجانب من جوانب الدراسات العليا يشهد حالة من التراجع والتدهور، لأن كثيرين من الباحثين يتقيدون بالمنح التي حصلوا عليها، والتي عادة ما تكون مكتوبة، ومقررة قبل توظيف الطالب، كما أنه يجب على الكثير من طلاب الدراسات العليا تنفيذ خطة محددة مسبقًا، وفقًا لحدود زمنية صارمة. إن التخطيط المسبق أمر جوهري بالطبع، لكن التدريب على تحديد موضوعات للدراسة وتغييرها جزء لا يتجزأ من الدراسات العليا، أو ينبغي أن يكون كذلك.
7. وَفِّقُوا ما بين التدريب، واتجاهات الوظائف :
نظرًا إلى أن الوظائف الأكاديمية نادرة، فقد اقترح بعض المحللين خفض عدد الوظائف المتاحة للمتدربين في مجالات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، المعروفة اختصارًا بـ(STEM)، لكن هذه الحجة تحتوي على مغالطة في افتراضها أن طلاب هذه التخصصات مدرّبون، وينبغي أن يكونوا مدربين بشكل حصري للعمل في وظائف أعضاء هيئة التدريس في الجامعات البحثية.
في حقيقة الأمر، هناك نسبة صغيرة فقط من الطلبة الذين يضعون أقدامهم على بداية الطريق نحو الحصول على درجة الدكتوراة في مجالات «ستيم»، وسوف يواصل أفرادها السعي حتى يحصلوا على وظائف أعضاء هيئة تدريس. على سبيل المثال.. في مجال الأحياء، تصل تلك النسبة إلى أقل من %8 من طلاب الدكتوراة الجدد. وعلى الرغم من أن تلك الإحصائية ربما تبدو مزعجة، فإنها لا تعكس الاحتياجات والفرص المتزايدة في مجالات التوظيف، التي تتاح خارج الحياة الأكاديمية التقليدية. تحتاج الولايات المتحدة فعليًّا في الوقت الحاضر إلى عدد أكبر من حملة الدكتوراة في المجالات الأربعة لـ«ستيم». وينبغي علينا محو الفكرة التي تقول إن هؤلاء الأشخاص سوف يكون هدفهم فقط الحصول على وظائف في مجال البحث الأكاديمي فحسب. فهناك ما يزيد على %98 من حملة الدكتوراة في مجالات «ستيم» يشغلون وظائف بالفعل في مجالات متنوعة. إضافة إلى ذلك.. لم تعد وظائف أعضاء هيئة التدريس هي الهدف الأسمى والأعلى لكثير من الخريجين. فعلى سبيل المثال.. كشف استطلاع رأي تم إجراؤه في عام 2011 بجامعة كاليفورنيا في سان فرنسيسكو، أن خريجي الجامعة يطمحون بشكل متزايد إلى إدارة المختبرات البحثية، وتوجيه البرامج التربوية، وصياغة وصنع السياسات العامة، وافتتاح الشركات، والتدريس في الجامعات الصغيرة. رغم ذلك.. فإن عددًا قليلًا من هؤلاء الطلاب المتحمسين يتلقون تدريبًا على المهارات اللازمة للمهن والوظائف غير التقليدية. لذا.. ينبغي تطوير الدراسات العليا في مجالات «ستيم»؛ للوفاء بتلك الاحتياجات. ومن شأن الدورات المقدَّمة في مجالات معينة، مثل طرق التدريس، أو الكتابة العلمية، أو ريادة الأعمال، أو الإدارة، سواء في مقار الحرم الجامعي، أم بواسطة الجمعيات المتخصصة، أن تسهم في إعداد طلاب الدكتوراة؛ لمواجهة سوق العمل الكبير في المجال العلمي.
لا تستدعي مسألة إدراج المزيد من الخبرات التربوية المتنوعة في تدريب الخريجين في الولايات المتحدة إطالة أمد الإطار الزمني. فعلى سبيل المثال.. تم تكليف بعض خريجي «ستيم» في جامعة ويسكونسن-ماديسون بأن يخوضوا تدريبًا داخليًّا لمدة ثلاثة أشهر في مسائل الصناعة، أو أمور الحكم. ولم يؤثر التدريب الداخلي على الوقت المخصَّص لنيل الدرجة، ربما لأن التجربة عزَّزت من تركيز الطلاب ودوافعهم.
يبقى السؤال: إذا أُعيد تصميم التدريب الخاص بمرحلة الدراسات العليا، بغرض إعداد الخريجين للعمل في الوظائف البحثية غير الأكاديمية بصورة أفضل، فهل سوف يمضي هؤلاء الخريجون نحو فرص عمل أكثر تنوعًا، وهل ستزداد ثقتهم في قدراتهم؟ هل سيكونون أكثر ثقةً في كلية الدراسات العليا؟ يستحق الأمر السعي لاكتشاف الإجابات.